
“الكتابة هي الأداة التي تساعدنا على فهم أنفسنا والعالم من حولنا بطرق لا يمكن تحقيقها بأي وسيلة أخرى.” – جوليا كامرون
يكتب المرء في سنوات حياته الأولى أكثر مما يكتبه طوال حياته. تبدأ الرحلة بتعلم الحروف ورسمها في أول الكلمة ووسطها وآخرها، ثم تأتي الكلمات، ثم الجمل، وبعدها الإملاء. وحين ترتكز الأساسات، نبدأ بالإبحار في بحر الكلمات ونكتشف ما يمكننا صنعه من مقالات وقصص من تلك الجُمل. نستمر في الكتابة؛ يطلب منك معلمك مقالًا عن موضوع ما أو بحثًا عن آخر، دون أن يخبرك ما الفائدة التي قد تكتسبها من كتابته، باستثناء جمع الدرجات بالطبع.
يكبر المرء غير مدرك للفوائد التي قد يجنيها من استخدام مهارات الكتابة التي تعلمها في صغره. يظن أن عوائد الكتابة تقتصر على التدوين، أداء المهام وتوثيقها، والتواصل. يستمر هكذا حتى يتخرج، وحينها يكاد نهر قلمه الشحيح أن يجف، لولا الرسائل النصية، الإيميلات، والمنشورات العابرة على مواقع التواصل، وربما بعض التقارير الوظيفية التي لا تتجاوز هذا الحد.
فكيف لشيء تعلمناه منذ الصغر، ونمارسه غالبًا طوال حياتنا، أن نظل غير مدركين لحدوده والدور الذي يمكن أن يلعبه في التأثير الإيجابي على حياتنا؟ في ظني أن الجواب يعتمد على عاملين أساسيين. الأول هو الجهل؛ لن نعرف أننا لم نكتشف سوى ٥٪ من المحيط إذا كنا نجهل عمقه الحقيقي، وبالمثل لن نستخدم الكتابة إلى أقصى إمكاناتها إذا لم نكن واعين بكل تلك الإمكانات.
أما العامل الثاني فهو الاعتياد؛ نعتاد طوال حياتنا على استخدام الكتابة كوسيلة لتحقيق غاية، بينما هي في الحقيقة تحمل قيمة جوهرية ومستقلة بحد ذاتها.
لا يمكن حصر فوائد الكتابة، لكن هناك بعض المزايا الأساسية التي تستحق تسليط الضوء عليها لما لها من تأثير مباشر على تطوير الذات وتنمية الفكر والإبداع؛ ويمكن تلخيصها كالتالي:
1. تعزيز الوعي الذاتي: الكتابة تتيح لك فهمًا أعمق لأفكارك ومشاعرك، مما يساعدك على اكتشاف ذاتك وتحليل تجاربك الشخصية بشكل أوضح. عندما تكتب، فأنت تسحب ذاتك الحقيقية من بحيرة الظن إلى سطح اليقين. مع الممارسة المستمرة، سواء من خلال مذكرات يومية أو غير مُلزمة بالوقت، ستبدأ بالتعرف على نفسك من جديد، وسترى فيها جوانب لم تكن ظاهرة لك من قبل. بالكتابة المستمرة والحرّة، تبدأ في اكتشاف حقيقة نفسك بعيدًا عن شوائب التوقعات والتصورات الخاطئة.
2. تحسين قدرتك على التعبير: من خلال الكتابة، تتعلم كيفية اختيار الكلمات المناسبة للتعبير عن أفكارك ومشاعرك بدقة ووضوح، مما يعزز مهاراتك في التواصل الفعال مع الآخرين. عندما تمتلك وعيًا ذاتيًا عاليًا وتعرف الكثير عن شخصيتك وصراعاتها ونقاط ضعفها، تصبح أكثر راحة وثقة في التعبير عن نفسك بصدق ووضوح.
3. تطوير التفكير النقدي والمنهجي: الكتابة تساعدك على تنظيم أفكارك وتحليلها، مما يعزز قدرتك على التفكير النقدي واتخاذ قرارات مدروسة بناءً على منطق واستنتاجات قوية. إنها تُسهم في ترتيب الأفكار بطريقة منهجية ومنطقية، مما يساعدك على رؤية الأمور من زوايا متعددة واستخلاص نتائج مدروسة. التفكير النقدي يشبه العضلة التي تزداد قوة مع التدريب، ولا شيء يدربها مثل الكتابة. رؤية الأفكار مكتوبة على الورق تسهل اكتشاف الثغرات وتصحيحها.
4. تعميق الفهم بالعالم من حولك: لا تقف الكتابة عند حدود معرفتك بذاتك، بل تتجاوزها لتشمل العالم من حولك. الكتابة تحفزك على البحث والاستقصاء، مما يمنحك رؤية أعمق للعلاقات بين الأفكار والمفاهيم. عندما تكتب، تستكشف أبعادًا جديدة للعالم من حولك، وهذا يساهم في توسيع رؤيتك وفهمك للتفاصيل المعقدة. أكتب عن كل ما يثير فضولك أو حتى حنقك، واستمر في الكتابة حتى تتجلى لك حقيقة الموضوع.
5. توفير مساحة للتعبير الحر: الكتابة تمنحك منفذًا للتعبير عن مشاعرك وأفكارك بحرية، مما يساعد على تخفيف التوتر والاحتفاظ بتواصل دائم مع ذاتك الداخلية. معظم مشاكلنا تنشأ من انفصالنا عن مشاعرنا وتركها تتحرك دون وعي، حتى تظهر فجأة بهيئة تذكير قاسٍ لا يمكن تجاهله.
علينا أن ننظر للكتابة كغاية بحد ذاتها؛ فهي تجربة مُثرية بغض النظر عن النتائج الخارجية. الكتابة ليست مجرد وسيلة لتوصيل أفكار أو لتحقيق أهداف مهنية أو تواصلية، بل هي عملية ذات قيمة داخلية. يقول جوردن بيترسون: “الكتابة تُعلمك كيف تفكر. وعندما يصبح الشخص قادرًا على التفكير، الحديث، والكتابة، يصبح غير قابل للهزيمة. لا شيء يمكن أن يقف في طريقه.”
افتح آفاقًا جديدة بقلمك وأعد رسم حدود قدراتك. اجلس مع صديق قديم تركته بعد آخر حصة تعبير، ودَعه يثبت لك أنه لم يكن عليك أن تتخلى عنه أبدًا. أكتب. أكتب يومياتك، خواطرك، أفكارك، قصصك، وأشعارك. لا تركز على شكل كلماتك في البداية، دعها تخرج أولًا ثم قم بتهذيبها لاحقًا إذا دعت الحاجة. ليس بالضرورة أن تُشاركها مع أحد أو تُظهرها للعالم حتى تجني فوائدها.
اكتبوا كلما سنحت الفرصة وكلما تزاحمت الأفكار؛ ففي الكتابة غنيمة، وفيها حياة.
أضف تعليق