
تزايد الحديث مؤخرًا عن التهديد الذي يشكله الذكاء الاصطناعي على الكثير من المهن، خاصة الإبداعية منها. لا يزال الذكاء الاصطناعي في مراحله الأولى ومن الصعب التنبؤ بالحدود التي قد يصل إليها، ومع ذلك فقد بدأ بالفعل في قلب موازين صناعة المحتوى. هذا التطور السريع يثير قلق البعض، حيث ينظرون لموجة التغيير هذه وكل ما يترتب عليها بتوجس مُبرر، ويرى الآخرون فيها فرصًا لا تعد ولا تحصى لتحسين وتطوير الصناعات الإبداعية.
ينتقل هذا التصور بدوره إلى مجال الكتابة الإبداعية حيث ينقسم الكتّاب إلى معسكرين؛ أحدهما يؤيد تواجد الذكاء الاصطناعي في العملية الكتابية ويعتقد أنه سيطورها ويحسنها بشكل ملحوظ، بينما يرى الآخر أن الذكاء الاصطناعي سيؤثر سلبًا على الصناعة وقد يهدد مستقبلها. وبين هذين المعسكرين، هناك من يتبنى رأيًا ثالثًا أكثر توازنًا، حيث يعتقدون أن الذكاء الاصطناعي لن يدمر الصناعة بل سيعززها ويعيد صياغتها بطرق جديدة ومبتكرة، ما دمنا نتوازن في استخدامه ونتخذّ الاحتياطات اللازمة للحد من مخاطره. بالتالي، يتضح أن النقاش حول تأثير الذكاء الاصطناعي على المهن الإبداعية، وخاصة الكتابة، ليس نقاشًا بسيطًا بل يحمل في طياته آراء متنوعة ومتباينة تعكس تعقيد وتعدد جوانب هذه القضية. هذا التباين في الآراء يعكس الحاجة الملحة لدراسة متأنية وشاملة حول كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل يعزز من قدراتنا الإبداعية دون الإضرار بأُسُسِها التقليدية. سأستعرض في هذا المقال الآراء الثلاث المتباينة، ثم أرجح كفة أحدها وأفسر لماذا أعتقد أنها الأكثر عقلانية.
سأناقش أولًا وجهة النظر التي تعتقد أن تأثير الذكاء الاصطناعي على الكتابة الإبداعية سيكون إيجابيًا. وجهةُ النظرِ السائدة في هذا المعسكر هي أن الذكاء الاصطناعي يوفر الكثير من الأدوات التي بإمكانها تحسين المُنتَج الكتابيِّ وليس استبداله. بإمكان الكاتب استخدام هذه الأدوات لتسهيل وتسريع خطوات إنتاج عمل كتابي، وهذا بدورهِ يُمكِّنُه من زيادة إنتاجه ورفعِ مستوى جودته. هناك الكثير من الأدوات التي تسمح للكاتب برفع جودة مُنتَجه الكتابي بأقل مجهود ممكن، وسأذكرُ بعضها في السطور القادمة للتوضيح.
إحدى الأدوات تتيح تحويل النصوص بحيث يمكن للمؤلف تغيير أسلوب النصِّ من درامي إلى علمي، أو من كلاسيكي إلى رسمي، وغيرها الكثير. أداةٌ أخرى تقدم مساعدة كبيرة للمؤلف هي مُساعِد الذكاء الاصطناعي الذي يُنفِّذ مهام المساعد الشخصي بمزايا تكاد تكون غير محدودة. يستقبل المساعد الأسئلة من المؤلف ويُجيبُ عليها مباشرةً وبالتفصيلِ المطلوب. يقومُ المساعد أيضًا بتسهيل عملية توليد الأفكار حيثُ يمكنُهُ مساعدة المستخدم على إنتاج تشبيهات متنوعة واستخدام أوصاف مختلفة. من أدوات الذكاء الاصطناعي كذلك أداة متخصصة في ترتيب الفصول والملاحظات على أي نص مكتوب، مما يجعلُ مهمة إنجاز العمل أكثرَ سلاسة. بالنظر إلى كل الأدوات السابقة، وهي قطرات من بحر لسنا قادرين بعد على رؤية نهايته، يُصبِح من الواضح أنَّ الذكاء الاصطناعي قادر فعلًا على دعم العملية الكتابية وتوفير الكثير من الوقت والجهد.
تنطوي وجهة النظر الأخرى على أنَّ تأثير الذكاء الاصطناعي على الكتابة الإبداعية هو سلبي بالكامل. يعتقد الكثير من الكتّاب والمحررين الأدبيين أن أدواتَ الذكاء الاصطناعي قادرة على أن تحلَّ محلهم، خاصةً أنَّ الشركات لن تتوانى في استبدال موظفيها بما هو أسرع وأقل تكلفة. ما الذي قد يدفع شركة لتوقيع عقود بمبالغ عالية والانتظار لمدة أشهر أو سنوات حتى يكون العمل جاهزًا؟ أو القيام بعملية بحث مطولة حتى يحصلوا على مشروع واعد، بينما بإمكانهم إنتاج كتاب أو سلسلة كتب من النوع الذي يرغبون به في دقائق؟ الذكاء الاصطناعي ليس مشكلة بالنسبة للشركات التي تضع النجاح التجاري فوق كلّ اعتبار.
من جهة أخرى، يعتقد الروائيون أن المحتوى الذي يُنتجهُ الذكاء الاصطناعي سيُغرق السوق مما سيثير عدة تحديات أمام أولئك الراغبين في النجاحِ في هذا المجال. تتمثلُ هذه التحديات في زيادة صعوبة إيجاد المحتوى الممتاز، ضعف الاهتمام نتيجةً لتدني الجودة، وتعقيد المشهد أكثر وزيادة صعوبة المنافسة والتفوق في هذا المجال. بالإضافة إلى ذلك يجب أن نضع في عين الاعتبارِ وجهة النظر التي تقول إن اعتماد المؤلفين على مساعدة الذكاء الاصطناعي في عملهم سينتجُ عنه تدهور معرفيّ وكسل إدراكي. تَضعُفُ العضلة حين نهملها ونتوقف عن استخدامها، وحين يتكئ الكاتب بكامل ثقله على الذكاء الاصطناعيِّ قد ينسى كيف يقف على قدميه. تتطور مهارة الكتابة من خلال الممارسة المستمرة ومواجهة التجربة الكتابية وتحدياتها المستمرة. كيف لنا أن نطور مهارة ونحن بالكاد نحتاج لاستخدام 20% منها؟
يتبنى أصحاب الرأي الثالث تصوّرًا أكثر توازنًا يتمحور حول الاستفادة من مزايا الذكاء الاصطناعي مع الحذر من مخاطره، وهذا هو الرأيُ الذي أتبناه شخصيًا وأرى أنه الأكثر عقلانية. أثبت لنا التاريخ أن من لا يتعايش مع التطورات والاختراعات في مجال عمله، سرعان ما يتخلّف عن الركب ويُطوى مع صفحات التاريخ. علاوةً على ذلك، لا أحسب أن الذكاء الاصطناعي قادرٌ على محو دور الكاتب الإبداعي بالكامل. تقليصه؟ ممكن. القضاء عليه؟ غير ممكن. لتفسير هذا الاعتقاد، يجب أولًا شَرح كيف ينتج الذكاء الاصطناعي نصًا مكتوبًا. يعمل الذكاء الاصطناعي على الاشتقاق والاقتباس، مما يعني أن جُل إنتاجه هو نسخٌ لما كُتب في السابق مع تغييرات طفيفة. إذًا ففعليًا، الذكاء الاصطناعي غير قادرٍ على خلق نص كتابي جديد ومُبتكر بالكامل. قد يطرأ على ذهن القارئ الآن مفهوم “لا جديد تحت الشمس” الذي يفيد بأن كل ما ابتكرته البشرية طوال القرون الماضية ما هو إلا توظيف مختلف لما هو موجود بالفعل، حتى أن كل القصص التي كُتِبَت عبر التاريخ لم تخرج عن إطار المواقف الدرامية الستة والثلاثين. وبالرغم من ذلك، وفي هذا الإطار، استطاع الكتّاب المبدعون أن يصنعوا قصصًا عديدة ممتازة خلّدها التاريخ، مستعينين على ذلك بقدراتهم الإبداعية وتجربتهم البشرية، وهذان عنصران لا يمتلكهما الذكاء الاصطناعي. قد تتمكن الآلة من كتابة قصة جيدة جدًا ولكنها لن تستطيع أن تخلق فيها عناصر غير تقليدية، ولن تستطيع أن تبتكر وصفًا جديدًا لمشاعر إنسانية هي لم تعِشها أصلًا. أقوى وأثمن أصول يمتلكها المؤلف هي مخيّلته وتعبيره الشخصي، وهذه أيضًا هي أسلحته الوحيدة والفتّاكة في معركته مع الذكاء الاصطناعي.
من الجدير بالذكر أيضًا أن كثيرًا من الكتّاب يجدون تحقيق ذواتهم من خلال عملية الكتابة ذاتها. انفرادهم بالحروف والكلمات وبناء عوالم وشخصيات والتعبير عن مشاعرهم التي يصعب فهمها يشبع بداخلهم جوعًا لا يمكن لأي شيء آخر إشباعه. صنع شيء من العدم علاجٌ لا يضاهيه علاج آخر، والمبدع يدرك هذا جيدًا. سيظل الكاتب الشغوف بالكتابة يكتب حتى وإن لم يعد هناك مكان أو اهتمام بكتابتِه لأنه يكتب لنفسه بالمقام الأول ولِما يجده من متعة ورضا في ممارسة العمل الذي يحبه. وأستخلاصًا لما سبق لا أعتقد أن الذكاء الاصطناعي قادرٌ على أن يمحي المهنة وممارسيها بالكامل. قد يحصل على حصته في السوق، ولكنه لن يسيطر عليه بالكامل. وفي ظني أن القارئ الصادق سوف يبحث دائمًا عن النصوص التي تكون صادقة معه، النصوص التي صنعها أشخاص يشاركونه التجربة الأرضية ذاتها، النصوص التي تحمل وجهة نظر شخصية وحقيقية، النصوص التي صُنعت بحب واهتمام واستغرقت وقتًا وجهدًا. تختلف نظرتنا للوحة تم صنعها في دقيقة عن لوحة استغرقت من الفنّان سنوات طويلة لإكمالها وإظهارها بأفضل صورة. يزداد تقديرنا للعمل حين نكون على علمٍ بقصة صناعته وبالجهد المبذول في سبيل إصداره.
خلاصة القول أن الذكاء الاصطناعي، وكحال الكثير من الأشياء، هو سلاح ذو حدين. حجم التأثير سيجبر المجال على التغيير والتكيّف. سيفرض الذكاء الاصطناعي على مجال الكتابة ومجالات كثيرة أخرى قانون: “البقاء للأفضل”. وحدهم القادرون على تغيير مسارهم لكي يتناسب مع المعطيات الجديدة هم الذين من الممكن أن يضمنوا لأعمالهم فرصة للنجاح. أرى أنه من الحكمة أن يستخدم الكاتب أدوات الذكاء الاصطناعي ليسهّل الأجزاء المملة من عمله، مع الحذر من الوقوع في فخ الاعتماد الكامل الذي بدوره سينعكس على جودة العمل وجودة قدرات المُفكر القائم على العمل. هذه الأدوات المساعدة بإمكانها أن تقدّم خدمات قيّمة للكاتب من خلال تقليص الوقت الضائع في البحث عن معلومة أو مفردة أو ملاحظة وإتاحة المزيد من الوقت للإبتكار والتوصل إلى أفكار خلاقة جديدة والتركيز على ممارسة الجانب الإبداعي من المهنة. وهذا في نظري سيسمح للكاتب باكتشاف أبعاد جديدة لإبداعه وتعبيره الشخصي والغوص في أعماق مخيلته، مما سينتج عنه بلا شك أعمال مُبتكرة ستكون قادرة على تحقيق نجاحات كبيرة. الخوف من أن تستبدل الآلة الإنسان مبرر في مجالات كثيرة، ولكنه ضعيف الأسس في المجالات الإبداعية. مهما تطوّر الذكاء الاصطناعي، في اعتقادي أنه سيفتقد دائمًا إلى اللمسة البشرية الإبداعية الفريدة. من الصعب على البشر في طبيعتهم أن يرتبطوا عاطفيًا بما لا يشبههم. الفنون، والكتابة تحديدًا، ترتكز على التجربة البشرية، وما دمنا نضعها في قلب ما نكتب لا أرى داعٍ للخوف.
أضف تعليق